Soon
FATIMA
ALBANAWI
A multi-hyphenate creative
Writer | Performing Artist | Actor | Director
Unearthing personal, social, and universal meanings through art
Topics Challenged in 2015
كيف يحوِّل الموت فناناً إلى عملٍ فني خالص؟
دراسة نقدية لشخصية جواد في رواية “وحدها شجرة الرمان”
بعد اندلاع عبوة ناسفة مستهدفة نقطة تفتيش في بغداد، وموت وإصابة البعض في ٢٧ إبريل من سنة ٢٠١٥، قام المايسترو كريم وصفي في صباح اليوم التالي وفي ذات مقر التفجير الإرهابي، قرب مطعم الساعة في شارع ١٤ رمضان في المنصورة، بتجسيد صورة للتحدي والصمود من خلال أوتار التشيلو الذي كان بحوزته. فبينما يقول فريدريك نيتشا معبراً عن حاجة الإنسان للفن: “نحن نمتلك الفن حتى لا نهلك في الحقيقة” نرى أن الفنان المايسترو كريم وصفي اتخذ ذات مقر التفجير ليخلق منه وليصدر فيه ايقاعاته، وبذلك فإنه يختار أن يعبر عن حقيقة الانفجار المحزنة ولم يهرب منها خلف آلته الموسيقية. هنا، نرى صورة أخرى لمقولة نيتشا المشهورة، وهي أن الفن ليس بالضرورة طامساً للحقيقة، بل مساعداً ومسهلاً للوعي بها فهي غالباً ما تكون قبيحة. وفي كثير من الأحيان، ينجح الفن نوعاً ما في إزالة بعض من تلك القباحة أيضاً.
١. الموسيقي كريم وصفي يتحدى اﻻرهاب بالموسيقى في بغداد. يوتيوب. ٢٠١٥/ابريل/٢٨
2. Ridley, A. “Perishing of the Truth: Nietzsche's Aesthetic Prophylactics” Brit J Aesthetics (2010) 50 (4): 427-437.
في ورقتي هذه، أهدف إلى مناقشة ثلاث نقاط أساسية: الأولى تكمن في الحاجة للجوء للعمل الفني كوسيلة للمشاركة وللمعاناة الجمعية. وفي ذلك طرح لكلا العملين، الأول والذي يكمن في العمل الروائي ذاته لسنان أنطون في روايته “وحدها شجرة الرمان” لنرى من خلالها حتمية الأسلوب الكابوسي في الكتابة، والثاني في شخصية البطل وخلقه لنوع جديد من الفن. أما النقطة الثانية فتهدف لدراسة نية الإنسان التي تجسد عملا، يطلق عليه البعض فنياً أو دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً. أما الثالثة، فتتناول طبيعة الفن كوسيلة لما تم ذكره من تعبير ومشاركة والتي يُسمح لها أن تتعرى من المبادئ الجمالية والقيود الاجتماعية لتشرك المشاهد أو القارئ في التجربة حتى ولو تسبب ذلك إلى انخفاض عدد المشتركين.
يرمز بعض النقاد والمحللون إلى المقولة التالية لوصف رواية وحدها شجرة الرمان فيقولون: “إن الألم العظيم يصنع أدباً عظيماً.” بالرغم من أن هذه المقولة تنطبق على الروائي سنان أنطون نفسه وروايته كعمل فني أدبي ربما نتج عن ألم، سواء كان ألماً لفراق، حرب، حب، حياة، أو موت، إلا أنني أحاول التركيز على فهم العلاقة بين العمل الفني والألم من خلال تحليلها كما ظهرت في الرواية وشخصياتها وليس من خلال مؤلفها. نرى في الرواية نوعاً من الأبدية والحتمية للاختناق والألم والتضحية، فجواد يضحي بمستقبله، وفنه، وبشبابه ليكون مع من هم أولى من نفسه بالاهتمام والمعونة. إلا أن ذلك يجعله ينظر لنفسه بأنه فنان فاشل. فمخاوفه ونظرته الدونية لذاته يظهران لنا في كابوس من كوابيسه العديدة قائلاً: “نظر إلى الأوراق التي كانت أمامه وقرأ: “خريج أكاديمية، نحّات فاشل. صبّاغ. إنت مؤمن؟” نعم، إن المجتمع يضع معايير جمالية وفنية للعمل الفني ويحاسب الكل عليها. فالفنان يبدأ مسيرته مستخدماً الفن كوسيلة للحرية إلاَّ أنه ينجرف إلى اتقان أسلوب وشكل معين من الجمال فقط، فيصبح من الصعب إيجاد قيمة للفن خارج معرض أو غاليري أو اتيليي للأعمال الفنية ويصبح الفشل إذا حتمي.
٣. وحدها شجرة الرمان' رواية معاناة العراقيين خلال الحرب في صور بشعة عن القتلى وكيفية غسل الموتى الذين راحوا أشلاء. العرب [نُشر في 05/10/2013، العدد: 9341، ص(17)]
رواية رجال في الشمس
في امتداد المكان والطبيعة للجسد
يقال في بعض الشعوب “دم فلان حار” أو “دم فلان بارد” استدلالاً بالمناخ على الشخصية الهادئة أو العصبية، الضعيفة أو القوية، كما تَطرَح بعض البحوث العلمية كبحوث أرسطو وابن خلدون وابن بطوطة أنه لا يستطيع فصل الطبيعة والمكان عن شخصية وطبيعة سكانه، فنقرأ عن اختلافات طبائع الناس الجسدية والفكرية والنفسية تباعاً لاتجاهات الأقاليم التي يقيمون فيها. في رواية رجال في الشمس، غسان كنفاني يطرح محوراً جديداً لهذه النظرية آخذاً شيئاً ما اتجاه معاكس لما سبق ذكره لكن غير منفصل عنه أو مناقد له، وهو كالآتي: كيف تكون الطبيعة والمكان امتداداً للجسد ووسيلة لوصفه واحياءه؟ اسم الرواية مثلاً يعطي القارئ نبذة ليس فقط عن الرجال بل عن الحرارة والصعوبات التي يواجهونها، فلم يكتفي بقول تحت الشمس، دالاً على مشقة العمل تحتها ربما، بل قال في الشمس، ولم يقل وراء الشمس، مشيراً إلى مردود عمل سياسي أو اجتماعي غير مرغوب به، بل قال في الشمس. هذا التجسيد يظل معنا حتى النهاية، فنشعر بترابط المكان والطبيعة بالجسد.
تتَجلى في بعض مشاهد الرواية هذه التمثيلات الجسدية والمكانية والطبيعية، فنرى في المشهد الأول بداية تكوين هذا الارتباط بين الأرض، أي المكان والطبيعة، والجسد، فتنتشر ذرات رمل الأرض في جسد أبو قيس عبر عروقه وخلاياه حتى يبدأ القارئ والراوي معاً بالتساؤل، من يسمع نبض من؟ هل الأرض تنقل نبضها لجسد أبو قيس فيبدأ قلبه بالنبض أم العكس؟ هذه العلاقة بين الطبيعة وأجساد كلاً من أبو قيس وأسعد ومروان بادت أقوى من علاقتهم بمن حولهم أيضاً، فإن الرواية تبدأ بتجسيد هذا العلاقة مع الأرض وتنتهي باستلقائهم عليها من جديد.
نرى في منتصف الرواية امتدادا آخر للجسد في تشكيل المكان، فحين خرج العجوز أبو قيس من دكان الرجل السمين بلكمة على وجهه، ممتلأً رأسه بالدمع، تشكلت المخلوقات على شكل غيوم “وراء ستار من الدمع. اتصل أفق السماء وصار كل ما حوله مجرد وهج أبيض لا نهائي” (ص. ٢٢)، لم يكن له حينها إلا أقرب الأشياء إليه، الأرض، التي تعيد النبض لقلبه ولجسده من جديد.
الرواية حقاً لا تفصل الجسد عن المكان، فنرى كيف إذا وُضِعَ الجسد في آلة يتجسد بطبيعتها فلا يستطيع الإحساس بالخطر حتى يولد منها ميتاً، أما الأرض فتنشر في الجسد نبضها حين يُستلقى عليها.
رواية موسم الهجرة إلى الشمال
كينونة مصطفى سعيد بين مستعمرٍ ومستعمَر
رسمت الرواية حدود بين الشرق والغرب في أولى صفحاتها، حيث بدأت بالعودة إلى الجذور والحنين إلى الوطن، ولكن في الوقت نفسه محاولتاً تقريب الفجوة بين بلدين متداخلتين جداً في بعضهما البعض إلى حد البعد، فولدت نتيجة لذلك ثنائيات بين المنطقتين من نواحي اجتماعية واقتصادية وثقافية وجمالية. الرواية تركز بشكل كبير على دولة السودان في حالتها التحولية المستمرة بين تمسك برموز جرداء من ماضيها و تقمُّص بتعاليم وعادات مستعمريها الانجليز، وذلك بعد أن حصلت على استقلالها في عام 1956.
فحين يعود الراوي لوطنه يأخذ في صورة جده موطناً يوقظ به ماضيه الإفريقي الذي تحول ولم يعد، فيقول في ذلك: “وهو على هذه الحال لا أدري كم من السنين كأنه شيء ثابت وسط عالم متحرك.” لذلك فقد وُصِفَ الجد بالأعجوبة، وهماً ورمزاً للسودان التي تحولت بعد غزو الانجليز ولم تثبت. وبالرغم من أن الراوي يبدو ساذجاً في رحلته لإحياء مستقبل خالٍ من الانجليز فيتردد بالزيارة لبيت جده متأملاً ذلك، إلا أن مصطفى سعيد يبحر في نهر النيل، تارة محارباً التيار نحو الشمال الانجليزي مبتعداً بذلك عن تخلف وطنه، وتارة أخرى غازياً الانجليز بسمهم ذاته، وتارة أخرى ضاحكاً من واقع الاستعمار المستتر الذي يستلزم وجود المستعمر كوجود الماء والهواء في السودان.
هذه التيارات تشكل الثنائيات في شخصية مصطفى سعيد، فالتيار الأول يظهر ثنائيته الثقافية في الرجل السوداني الذي يعتقد أن السودان ليست بحاجة إلى شعراء بل إلى مزارعين، ومهندسين، وأطباء، إلا أنه يظهر حقيقة باطنة في حالة سكره بتلاوته الجيدة للشعر الانجليزي. واستخدام كلمة “يتلو،” التي تعني القراءة واتباع مقتضى ما يُتْلَى، بحد ذاتها دلالة على هذه الحقيقة المدفونة، فهو بالرغم من أنه يأتي الانجليز غازياً، إلا أنه لا يمكنه الفرار من تشبعه بثقافتهم، فيكون غازياً افريقياً في وعيه وشاعراً انجليزياً حين يفقد وعيه.
ومن هنا نرى الثنائية الأخرى لمصطفى سعيد، ألا وهي الغازي الافريقي والوحش الكاسر الذي يسير إلى فريسةٍ بعد أخرى “كالقارب يسير إلى الشلال.” فإذاً نرى أن سعيد ليس سعيداً بكينونته المشبعة بالسم الانجليزي، فهي تظهره على شكل شاعر، لكنه بسببها يتحول إلى مقاتل، فيخاطب فريسته: “نعم يا سيدتي، إنني جئتكم غازيا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ.
أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة.” من منطلق مصطفى سعيد، فإن علاقاته النسائية ما هي إلا تحرير للسودان، وطنه الذي سلبه منه الانجليز ولم يعيدوه، وحين تتساقط عليه النساء الانجليز بسبب معرفته ودبلماسيته يقول: “سأحرر أفريقيا ب…ي” كان يعيش في أكذوبة صوته الوحشي وصرخاته الكاسرة والحياة الافريقية المليئة بريش النعام وتماثيل العاج، والتي يكون فيها المولى وتكون النساء فيها الجاريات. ولكنه في الوقت نفسه ينظر إلى النساء الانجليز بنظرة بها أكثر مساواة فيشعر بأنه والمرأة قد “صاروا كفرس ومهرة، يركضان في تناسق، جنباً إلى جنب،” لكن على الرغم من ذلك وعلى الرغم من خلفيات النساء الأربع المختلفة والمتحررة والمفكرة، إلا أن المرأة تظل الفريسة، فنرى هذا بدقة ليس فقط في مصير كل منهن من موت صراع، ولكن في معاملته لزوجته السودانية. لا يبدو مصطفى سعيد نفس المعاملة والانفتاح مع حسنة، فإن حسنة لم تستطع أن تتناول شيئا من معرفة زوجها لأن كتبه لم تكن عربية وقد حبسها في غرفة دون مفتاح، وكأنه يحتكر المعرفة للرجل فقط، وليس لأي رجل، بل بالتحديد للقادر على التحدث بلغة المستعمر.
ففي الرواية رمزيات لا نهاية لها تبحر بالقارئ بين الثنائيات، حتى أنها تأتي مجسدة أيضاً، كصورة السيارة (آلة) الخاوية للسوداني الدارس في بريطانيا وصورة الحمار التقليدي للسوداني الغير متعلم. فعلى الرغم من أن مصطفى سعيد عاش لورداً مرفهاً في فترة من حياته، إلا أن السودان فيه وتقاليدها لم تطمس وأيضاً حين عاد إلى افريقيا، فقد ما زالت الانجليز حية بداخله. فتنتهي الثنائيات بطيات صفحات بيضاء تركها لمن يرى العالم إما أسود أو أبيض، فإما أنه تركها بلا حل واضح، داعيا كل باحث أن يبحث على وصفته الخاصة، وإما أنه يطلب النجاة في وقت غرقه بين هذه الثنائيات فينادي: النجدة. النجدة.